في إحدى الجامعات العريقة في إندونيسيا، قرر أستاذ مادة الفلسفة الاجتماعية أن يغير مناهجه التقليدية ويقدم لطلابه تحدياً فريداً. وقف أمام القاعة المليئة بالطلاب وأعلن قائلاً: “هذا الفصل الدراسي لن يكون مثل أي فصل سابق. للحصول على الدرجة الكاملة في مادتي، عليكم إسعاد شخص واحد طوال الفصل. يجب أن يكون هذا الشخص خارج محيط عائلتكم أو أصدقائكم، وأن يكون شخصاً لا تعرفونه بشكل جيد. في نهاية الفصل، سأطلب منكم تقديم عرض مصور عن تجربتكم، وكيف أثرت أعمالكم الصغيرة على حياة ذلك الشخص.”
تفاجأ الطلاب بهذا التحدي، لكنهم سرعان ما شعروا بالحماس والرغبة في التغيير. خرج كل طالب وهو يفكر في الشخص الذي سيختاره. البعض قرر زيارة دور الأيتام، والبعض الآخر قرر تقديم المساعدة للمشردين. لكن أحمد، طالب في السنة الثالثة، كان له تفكير مختلف تماماً.
أحمد كان شاباً هادئاً ومجتهداً، معروفاً بتواضعه وابتسامته الخجولة. كان يأتي من أسرة متوسطة الحال، ويدرس بجد لتحقيق أحلامه في أن يصبح مهندساً ناجحاً. في طريقه إلى الجامعة، كان يستقل التاكسي يومياً، ودائماً ما كان يركب مع نفس السائق المسن الذي يدعى “باك هاردي.” كان باك هاردي في الستينات من عمره، يعمل لساعات طويلة ليوفر قوت يومه ويعيل أسرته.
رغم عمله الشاق، لم يكن باك هاردي يشتكي أبداً. كان يبتسم للركاب بصمت، يفتح لهم الباب، ويؤدي عمله بأمانة وإخلاص. لكن أحمد لاحظ شيئاً مختلفاً، فقد كانت عيون السائق تحمل حزناً دفيناً، ووجهه المتعب يعكس سنوات من الكفاح. قرر أحمد أن يكون هذا السائق هو الشخص الذي يريد إسعاده.
في اليوم التالي، وقبل أن يستقل التاكسي، توقف أحمد عند محل صغير واشترى وجبة إفطار بسيطة وعلبة من العصير. جلس في المقعد الأمامي كعادته، لكنه هذه المرة وضع الوجبة بينه وبين السائق وقال: “هذه لك، باك هاردي. أعلم أنك تبدأ يومك باكراً، ومن المؤكد أنك لا تجد الوقت لتناول فطورك.” ابتسم باك هاردي بخجل، وحاول رفض الهدية بلطف قائلاً: “لا داعي يا بني، أنا بخير.” لكن أحمد أصر بلطف، قائلاً: “أنت تعمل بجد، وتستحق هذه الوجبة البسيطة. اعتبرها من صديق.”
منذ ذلك اليوم، بدأ أحمد يقدم فطوراً صغيراً للسائق كل صباح. لم يكن شيئاً كبيراً، لكنه كان يحمل معه الكثير من الاهتمام والود. بدأ أحمد يلاحظ تغيرات بسيطة في سلوك السائق، فقد أصبح أكثر حيوية وتفاؤلاً. بدأ يتحدث مع أحمد عن حياته، وكيف أنه يعمل منذ الصباح الباكر حتى المساء لتأمين حياة كريمة لعائلته.
مرت الأيام، واستمر أحمد في تقديم الفطور، لكنه بدأ بإضافة لمسة جديدة في كل مرة. في يوم ما، وضع رسالة صغيرة مكتوبة بخط يده مع الفطور، كتب فيها: “أنت لست مجرد سائق، أنت شخص رائع يحمل في قلبه الكثير من الكفاح والصبر. استمر في ما تفعله، فأنت تصنع فرقاً في حياة كل من يركب معك.” في اليوم التالي، وجد أحمد أن السائق قد احتفظ بالرسالة ووضعها في جيب سترته. كان من الواضح أن هذه الكلمات البسيطة لامست قلبه.
لم يتوقف أحمد عند هذا الحد، ففي يوم آخر اشترى باكيت من الشوكولاتة وتركه للسائق مع رسالة أخرى تقول: “هذه الشوكولاتة لتمنحك بعض الطاقة والابتسامة خلال يومك الطويل. استمتع بها، لأنك تستحق كل شيء جميل.” كان أحمد يلاحظ كيف أن ابتسامة السائق تزداد مع كل هدية صغيرة، وكيف أصبح أكثر تفاؤلاً وسعادة.
مع مرور الوقت، تحول باك هاردي من سائق صامت إلى صديق مقرب لأحمد. كان يروي له قصصاً عن شبابه، وكيف أنه كان يحلم بأن يصبح مهندساً مثل أحمد، لكن الظروف لم تسمح له بتحقيق حلمه. كان هذا الحديث يلامس أحمد بشكل خاص، إذ رأى في السائق صورة لشخص كافح ولم يستسلم رغم كل الصعاب.
بعد شهرين من هذه المبادرات البسيطة، أصبح باك هاردي شخصاً مختلفاً تماماً. تغيرت حياته اليومية بشكل ملحوظ، لم يعد مجرد سائق تاكسي، بل أصبح رجلاً ممتلئاً بالأمل. كان يضع الزهور في سيارته، ويعلق على المرايا بطاقات تحمل عبارات تحفيزية كتبها بنفسه، مثل: “كل يوم جديد هو فرصة جديدة.” كان يبتسم للركاب، ويشاركهم قصصه الصغيرة التي بدأت تجذب اهتمام الجميع.
في نهاية الفصل الدراسي، حان وقت تقديم العروض المصورة. وقف أحمد أمام زملائه وأستاذه، وبدأ يعرض مقاطع الفيديو والصور التي توثق تجربته مع باك هاردي. كان العرض مليئاً باللحظات المؤثرة، من ابتسامة السائق في اليوم الأول حتى التحول الكبير الذي شهده في النهاية. شارك أحمد قصته، وكيف أن الأعمال الصغيرة يمكن أن تخلق تغييراً كبيراً في حياة الآخرين.
تفاعل الجميع مع القصة، وتلقت المبادرة إشادة كبيرة من الأستاذ والطلاب. ولكن المفاجأة الكبرى كانت عندما وقف باك هاردي نفسه في القاعة، وقد دعاه أحمد ليشهد عرضه. كان السائق متأثراً للغاية، وشكر أحمد أمام الجميع قائلاً: “أحمد لم يعطني فطوراً فقط، بل أعطاني أملاً وإيماناً بأن الحياة ما زالت مليئة بالأشياء الجميلة.”
بعد العرض، قررت الجامعة تكريم أحمد بمنحة دراسية لدعمه للآخرين، وشجعت باقي الطلاب على الاستمرار في مثل هذه المبادرات الإنسانية. لم يقتصر الأمر على أحمد فقط، بل تم تحويل قصته إلى حملة مجتمعية لدعم السائقين المسنين في المدينة، وجمع تبرعات لمساعدتهم على توفير حياة أفضل.
أصبح أحمد وزملاؤه مثالاً يحتذى به في الجامعة، وانتشرت القصة عبر وسائل الإعلام المحلية، مما ألهم العديد من الشباب للقيام بمبادرات مماثلة. أما باك هاردي، فقد أصبح رمزاً للأمل والصمود، واستمر في عمله بسعادة أكبر، محتفظاً بكل الهدايا والرسائل التي قدمها له أحمد، كتذكير دائم بأن هناك من يراه ويقدر جهوده.
الدرس المستفاد:
تعلم أحمد وباك هاردي وكل من سمع هذه القصة أن الأفعال الصغيرة التي تنبع من القلب لها قدرة كبيرة على تغيير حياة الآخرين. ليس من الضروري أن تكون كبيراً أو غنياً لتصنع الفرق، يكفي أن تكون إنساناً يحمل في قلبه رغبة في إسعاد من حوله. تذكّر دائماً أن الابتسامة، والكلمة الطيبة، والهدية البسيطة يمكن أن تصنع تغييراً أكبر مما تتخيل، وتعيد الأمل لمن ظن أن الحياة قد أغلقت أبوابها.